الضحك الأسود-علي الاسكندري(العراق)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

الضحك الأسود

  علي الاسكندري    

يعتمد بناء النكتة وثقافتها على عوامل عدة منها المبالغة وتفخيم الموقف أو الحدث وضغطه وتكثيف واختزال لغته وهذا خاص بالتلميح وقصار النكات كما يستخدم في بناءها اللامعقول والخيال الجامع وقلب المفاهيم والمواقف كما أنها تعمل في ميادين الخطأ من خلال السعي لتصحيحه أو في ميدان الموقف الصحيح لغرض ترسيخه وتثبيت صحته وهناك عوامل أخرى لامجال لذكرها ...وفي كل الأحوال فثقافة النكتة أداة ناقدة وعين راصدة للظاهرة السلبية   باختلاف مشاربها ( سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية ) بعد أن كانت في بداية أمرها مقتصرة على المجال الترفيهي وهي تنشط في الأوساط الشعبية المعدمة لكثرة المظلوميات والظواهر السلبية والأخطاء وكما أوردنا سابقا فان النكتة تنشط وتعمل بالضد من هذه المفاهيم لغرض تصحيحها ....ولنأخذ هذه الحكاية العباسية الطريفة ونسلط عليها الضوء ونستبصر بنيتها , قيل لـ ( ماني ) المـُوَسْوَس وكان يحمل سمكة تلبط بين يديه كان قد اصطادها من نهر دجلة ..... ما الذي تحمله ياماني ..؟ فأجاب احمل برذونا وكان يقصد البغل أو الحمار ، قيل له وماذا تفعل بهذا البرذون ...؟ قال سأتزوجه...!!! وهي إجابة تنطوي على خطأ واضح قياسا إلى التفكير التقليدي في سياق الحديث لكنه خطأ مشحون بالغضب والإنكار والتعنيف من خلال تكذيب ماتراه العين الباصرة لما يحمله ذلك الموسوس وهي سمكة وبين ما لفـّقه وادعاه بأنه يحمل ( برذونا ) وهو إيهام وتضليل للحقيقة الواقعة يرمي إلى استفزاز السائل وإشعاره بعدم الثقة بالنفس والاهانة وتسفيه استفهامه المتدني وصدمه بما لا يـُتــَوقّـــَّع ، تكشف لنا هذه الطرفة التراثية السوداء عن توفر مستويـــــين من التفكير في المجتمع , الأول المتمثل بالشخصية الأولى ( ماني الموسوس) وهو شخصية ممسوسة لم يصبها الضر والعوق الفكري بسبب عاهة ولادية كما يكشف عن ذلك صاحب الأغاني" أبو فرج الأصفهاني " وإنما هي شخصية عباسية بغدادية تنتمي إلى أسرة موسرة أصابها الاختلال بعد مرحلة الشباب بسبب التوقد الفكري والذكاء الحاد والضغط الاجتماعي في ذلك العصر وهو مانفسره بمعطيات العصر الراهن ضمن مفهوم ( بين العبقرية والجنون خيط رفيع ) وهذا المستوى من التفكير هو الذي يعمل خارج السياقات الثابتة . ويفكر بطريقة مختلفة عن السواد الأعظم وتلك عقلية منتجة للفكر والمعرفة , والمستوى الثاني  هو التفكير المتمثل بـ ( قيل ) والذي لايكشف لنا الراوي ( على لسان من جرى التساؤل المار ذكره ..؟ ) واغلب الظن أن ( قيل ) تلك الموجهة إلى هذا الممسوس الذي لم يقطع الشعرة الواهية بين سراج العقل وغياهب الجنون تعود بمرجعيتها إلى المجتمع ونحن بهذا الطرح نوجه الأنظار إلى سذاجة السؤال المجتمعي السالف الذكر مقابل عبقرية الإجابة المـُسـْكــِتة التي تحاول إرباك الأنساق الاجتماعية المنضبطة التقليدية التي تعمل كموجهات للخطاب الفكري للمجتمع أو مانسميه (الديدن) أو العادة وهي ردود النخبة المبدعة الرفيعة الخارقة للمتون الراكدة على أفعال وخطابات العامة المتمثل بطوفانات الطروحات الفارغة والأسئلة اللجوجة ، من هنا تنشأ الفجوة والتوتر والتمايز بين العقل الخامل الذي ينتمي بقوة إلى الثوابت ويخشى التغيير والتحول والذي تمـثـّله ( قيل ) المجتمعية التي بحثنا عائدية جذورها وبين العقل الذي لايشعر بالانتماء إلى السرب ولا يحبذ أن يغـرّد داخله والمـُتـمـثـّل بشخصية المـمـسوس المعـزول وهي خصومة أبدية وفجوة عميقة بين الفريقين لايمكن ردمها مادامت عجلة الديناميك دائرة في فلكها ، إن اغلب أفعال وأقوال الظرفاء والممسوسين والمجانين التي تجعلنا نغتبط ونـــُسـَـر ونمرح وفي ذات الوقت نفكر ونتأسـّى ونراجع مواطن الخلل التي استهدفتها تصويبات المقولة الساخرة أو النكتة إنما تنتمي في حقيقة أمرها إلى مـُخيلة مبدعة وعـقلية خـلاّقة ولنا في حكايات وطرائف كليلة ودمنة لابن المـُقفـّع مثالا بليغا في نقد منظومة الحكم آنذاك والتي رُويت على لسان الحيوانات والطيور تخلــّصا من النطع والسيف ودهاليز السلطة كما هو معروف كما لايفوتنا إن نتذكـّر النظم السابقة في تاريخ العراق وكيف كانت النكتة سلاحا ماضيا يخشاه الساسة وليس أجمل من تنويعات الفنان الراحل عزيز علي وغيره في فن ( المنالوج ) مثالا والذي كان ينتقد أية ظاهرة سلبية دون خوف أو تردد مهما كان مصدر تلك الظاهرة من حيث المنزلة والمقام حتى انقلاب 1968 حيث أصبح تداول هذا الفن الجميل محظورا إلا فيما يخص الجوانب البعيدة عن مجريات السياسة وأمور السلطة ،وكما يعلم الجميع فأن حياتنا كلها كانت  مرهونة بهذين الجانبين لذلك دخلت النكتة إلى دهاليز المنع والسوق السوداء حتى سقوط النظام حيث تحررت النكتة من سلاسل السياسة لتقع تحت طائلة الحركات الدينية .



  alialiskandary@yahoo.com
  علي الاسكندري(العراق) (2009-12-11)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

الضحك الأسود-علي الاسكندري(العراق)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia